Nov 24, 2023 9:03 AM
مقالات

" عيد بأيّة حالة عُدت يا عيد "

كتب بطرس حرب - نائب ووزير سابق

"عيد بأيّة حال عُدت يا عيد        بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد " ( أبو الطيّب المتنبّي)

تردّدت كثيراً في كتابة هذا المقال، لأنّني كنت قد قرّرت اعتزال العمل السياسي،إلاّ أنّني في اعتزالي العمل السياسي، لم أتنازل عن صفتي كمواطن معني بمتابعة مجريات الأمور في بلده وبمصير وطنه ودولته وشعبه.

ولأنّني شعرت أنّ ما آلت إليه الأمور هذه الأيام البائسة بات يهدّد وجود وطني، وسيادة دولتي، ووحدة بلدي وشعبي، ويهدّد استمرار النظام السياسي القادر على المحافظة على وحدة اللبنانييّن وحرّياتهم وتعددّيتهم الاجتماعيّة والفكريّة والثقافيّة ، لكلّ ذلك مجتمعاً، قرّرت الكتابة لأدقّ ناقوس الخطر الكبير، بعد أن استفزّتني ذكرى إعلان استقلال دولة لبنان، وذكرى يوم العلم، الذي كنت قد أنشأته عام 1979، يوم توليّت وزارة التربية الوطنيّة، يوم كانت أعلام دول كثيرة ترتفع في لبنان ويغيب علم لبنان، فأعدتُه يرفرف فوق كلّ الأعلام.

وما استفزنّي أكثر مجيء وزير خارجيّة إيران، يوم ذكرى استقلال لبنان بالذات، لتوجيه حزب الله وتحديد مصير اللبنانييّن في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه، وهو يقف على حافة دخول حرب، ستكون مدمّرة إذا حصلت، في ظلّ حكومة ، أعلن رئيسها أنّ قرار دخول لبنان في الحرب، أو عدم دخوله، ليس في يد حكومته المنقسمة على ذاتها، ناهيك عن الجهود التي يبذلها لانعقادها في كلّ مرّة، بسبب موقف وزراء التيّار الوطني الحرّ، المقاطع للجلسات الحكوميّة، بحجّة أنّها معتبرة مستقيلة، وأنّ دورها، في غياب رئيس الجمهوريّة، لا يتجاوز تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق للكلمة، وأنّ أيّ قرار يصدر عنها يجب أن يوقّعه كلّ الوزراء دون استثناء، وأنّه لا داعي لانعقاد مجلس الوزراء بل اعتماد المراسيم الجوّالة على الوزراء، وذلك خلافاً لما كان يجري في حكومة الرئيس تمّام سلام، التي انتقلت إليها صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، بعد خلوّ سدّة الرئاسة بسبب تعطيل جلسات انتخاب رئيس بديل من قبل التيّار الوطني الحرّ وحزب الله، والتي لم تكن مستقيلة، بل مقيّدة الصلاحيّات وكأنّها مستقيلة، والتي اعتمدت نظريّة تفادي التصويت على أيّ موضوع خلافي يعترض عليه مكوّنان أساسيّان من مكوّنات الحكومة، وإصدار القرارات بالتوافق، دون ضرورة توقيعها من كلّ الوزراء كشرط لإصدارها، خلافاً لما يزعمه رئيس التيّار الوطني الحرّ اليوم، وأكتفي لتفادي أيّ جدل حول هذا الأمر، بإعطاء مثل على ذلك ، يوم امتنعت مع الوزير نبيل دو فريج، عن توقيع مرسوم تعيين رئيسي مصلحة ينتميان للتيّار الوطني الحرّ، في وزارة التربية، وأنّ المرسومين صدرا ونُفّذا  بالرغم من ذلك.

وما أرعبني ودفعني للكتابة الحملة الشعواء التي يشنّها رئيس التيّار الوطنيّ الحرّ على الجيش اللبناني، عبر قائده، والسعي للإطاحة به في هذا الظرف العصيب، الذي لم يبقَ للبنان  فيه إلاّ جيشه وقيادته لمواجهة كلّ الاحتمالات الدراماتيكيّة المحتملة بسبب تورّط حليفه الاستراتيجي حزب الله في مناوشات مع العدو، ومطالبته بتعيين قائد للجيش أصيل وجديد والمجلس العسكري من قبل هذه الحكومة المستقيلة، في الوقت الذين يزعمون فيه أنّهم حريصون على كلّ صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، ولاسيّما الصلاحيّة الأهمّ في اختيار قائد للجيش في عهده، باعتباره القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، حسب المادة /49/ من الدستور.

من حقّ اللبنانييّن أن يعرفوا خلفيّات هذا الموقف العدواني لرئيس التيّار الوطني المستميت للإطاحة بقائد الجيش، وهو الضابط الذي اختاره ميشال عون، لأنّه، كما سُرِّب عن لسانه، " أحد الصيصان الذين ربّاهم " يوم كان قائداً للجيش، ولأنّه متعاطف سياسيّاً معه، وذلك خلافاً لرأي صهره، الذي نصح آنذاك بعدم تعيينه لأنّ " رأسه كبير وقد يتعبنا " وتعيين ضابط آخر يمكن التحكّم به، وهو ما عمل عليه في كلّ التعيينات، كما طلب من الوزراء، المقترح تعيينهم من قبله، توقيع كتب استقالة مسبقة ودون تاريخ كضمانة للتحكّم بهم.

فالأسباب الحقيقيّة لموقف رئيس التيّار الوطني الحرّ، ولعمّه من ورائه، أنّ هذا الضابط لم يتصرّف، بعد تعيينه قائداً للجيش كأحد " الصيصان " الذين ربّاهم ميشال عون، ولم يضع مؤسسّة الجيش الوطني في خدمة الحكّام، بل في خدمة لبنان ومصالحه، وفي الحفاظ على التراتبيّة ومبدأ الجدارة والاستحقاق في كلّ التشكيلات والترقيّات العسكريّة التي أجراها، وخلافاً لمطالب من عمل على تعيينه، وأنّ هذا الضابط لم يضرب المواطنين الذين نزلوا إلى الشارع في تشرين من العام 2019، ولم يصدر أوامره إلى الجيش لمنع التظاهرات بالقوّة، بل اعتبر أنّ واجبه يفرض عليه المحافظة على النظام الديمقراطي الذي يحمي حقّ المواطنين في التعبير عن رأيهم بحريّة، وليس تنفيذ أمر الحاكم المنزعج من ثورة المواطنين على ممارسات عهده وصهره التي أودت بلبنان إلى " جهنّم "، كما اعترف ميشال عون بذلك، وعرّضت اللبنانييّن للعوز والإذلال والفقر وسرقة ودائعهم المصرفيّة وحرمانهم من الدواء والاستشفاء والكهرباء والماء.

فاللبنانيون الذين صفّقوا لعون ولشعاراته الجذّابة، من تحرير واستعادة سيادة، ومن مكافحة الفساد والإصلاح، بعد أن يئسوا من الأحزاب والقيادات التي فشلت في ذلك، ظنّاً منهم أنّهم يدعمون أفلاطون في بناء جمهوريّته، وسيمون بوليفار في تحرير بلاده، وديغول في بناء الجمهوريّة الخامسة في فرنسا، لم يحصدوا إلاّ الخيبة والفشل والفساد، ومقايضة السيادة بالمصالح والتسلّط والنفوذ والاستبداد وتكديس الثروات غير المشروعة، هؤلاء اللبنانيّين جاعوا، وفقدوا كلّ ما يملكون من سيادة وقرار وطني حرّ وعيش كريم، وتحوّلوا مادة ابتزاز في سوق المصالح الإقليميّة والدوليّة، في الوقت الذي زادت ثروات أهل الحكم، الذين نكثوا بوعودهم، هؤلاء نزلوا للاحتجاج و" لفشّة خلقهم " بروح ديمقراطيّة ، هؤلاء أزعجوا الحكّام وكشفوا ممارساتهم، وكان المطلوب ضربهم وإسكاتهم، ووضع الجيش في وجه أهله ليقمعهم، ما لم يحصل بحكمة ووعي قائد الجيش، ما اضطرّ أهل السلطة إلى إنزال مليشياتهم للإعتداء على الناس وتفرقتهم بالقوّة .

هذا هو السبب الرئيسي الذي أنزل غضب ميشال عون وصهره على قائد الجيش، بالإضافة طبعاً إلى خوفهما من أن تؤدّي الظروف إلى تكرار ما حصل عام 2008، عندما تمّ الاتّفاق على انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهوريّة، ما يعرّض مصالح التيّار للخطر ورئيسه للضرر، باعتباره ساعياً لبلوغ هذا المركز بالذات، مهما طال الزمن، ومهما كان لتأخير انتخاب رئيس من أضرار على لبنان.

إنّ ما دفعني للكتابة ليس هذا فقط، بل انعكاسات ما يجري على مستقبل لبنان وعلى توازناته الدقيقة وعلى الحياة المشتركة بين أبنائه، ولاسيّما على الوجود المسيحي الحرّ والفاعل فيه.

ليس من مصلحة أيّ طائفة في لبنان اختلال التوازنات في التركيبة اللبنانيّة الحسّاسة، لأنّ لذلك انعكاساً على وحدة لبنان وعلى مستقبله، المبني على اطمئنان كلّ مكوّن من مكوّناته إلى وجوده ودوره وأمنه ومستقبله، ما يحوّل هذه التوازنات إلى مادة سياسيّة حسّاسة ودسمة لارتباطها بمشاعر الناس والطوائف وبمخاوفهم، وما يجعلها مادة للمزايدات السياسيّة وللاستغلال الغرائزي لمشاعر أبناء كلّ  طائفة لجهة حقوقها ودورها ومستقبلها. وكم من زعامة قامت على هذه الشعارات والطروحات لدى كلّ الطوائف، ولاسيّما لدى المسيحييّن أثناء الأحداث الدامية التي جرت في لبنان منذ العام 1975، ومنذ إقرار صيغة الوفاق الوطني في الطائف. وإن ننسى فلا ننسى شعار " استرداد حقوق المسيحييّن " الذي رفعه التيّار الوطني الحرّ، في الوقت الذي يعطّل انتخاب الرئيس المسيحي للجمهوريّة، ويمنع تعيين حاكم مسيحي لمصرف لبنان، ويعمل للإطاحة بصمّام الأمان العسكري المسيحي في قيادة الجيش.

نعم أُقرّ قانون انتخابات نيابيّة سمح للأحزاب المسيحيّة، وغيرها، من إيصال أكبر عدد ممكن من النوّاب التابعين لهم، إلى مجلس النوّاب ، لكن السؤال الذي يطرحه المتابعون السياسيّون، ماذا تحقق للمسيحييّن من وصول هذا العدد؟ هل استطاعوا التأثير على قرارات السلطة في الدولة، وهل استطاعوا حماية سيادة لبنان من الانتهاك، وهل حلّوا مشكلة السلاح غير الشرعي؟ وهل حصّنوا الدولة ؟ وهل حموا الوجود والدور المسيحي المستقلّ في لبنان؟، هل استطاع المسيحيون المحافظة على دورهم في القرار الوطني، أم أنّ بعضهم يستجدي دوراً أو منصباً أو حتى تعطيلاً، ممن غطّوا له سلاحه غير الشرعي ، والبعض الآخر يعترض ويمانع دون نتيجة. أين أصبح الوجود المسيحي الأساسي في لبنان، وأتساءل ألا يُرعِب المسؤولين المسيحيّين بصورة خاصة، هجرة كلّ، وأشدّد على كلمة كلّ، طاقاتنا الشابة إلى الخارج، تفتيشاً عن فرصة عمل انعدمت في لبنان، وعن جنسيّة بديلة، بعد أن عانوا من عبء جنسيّتهم على عملهم وتنقّلاتهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم. أسأل هذا لأنّني شخصيّاً مرعوب مما يجري، وبصورة خاصة من تحوّل لبنان من مجتمع الفرح والحياة والشباب والانفتاح، إلى مجتمع شيوخ يتناقص عدد شبابه وشاباته يوميّاً، لا فرح فيه ولا حياة ، بل حزن وموت وجنازات، ولا أمل ولا مستقبل، نعم أنا مرعوب من الحالة التي وصلنا إليها ومن صورة المستقبل الذي أراه.

لم يعد في لبنان دولة، بل تحوّل إلى مجموعة مزارع  يحكمه شعار "كلّ واحد شو بيطلع بإيدو "، فليس فيه سيادة، ولا فيه قرار مستقلّ يتّخذه أبناؤها، بل أصبح مصيره مرتبطاً بتنفيذ ما تقرّره إيران وحزبها، وما يمكن أن تتوافق عليه الدول ذات المصلحة فيه أو المتعاطفة معه، ننتظر ما يتّفقون عليه فننصاع وننفّذ، أمّا كلّ رافض ومعلن لرفضه، فهو في خطر التهديد والاغتيال.

يتاجرون بحقوق الدولة الأساسيّة لتحقيق مصالحهم أو لممارسة نكدهم أو أحقادهم، أو لمواجهة أخصامهم السياسييّن، وآخر همّ لهم مصلحة الوطن ومستقبل اللبنانييّن.

ألم يحن الوقت لنستفيق ونعي خطورة المرحلة التي بلغناها، ونعمل على لملمة شتات هذا الوطن وشعبه، ونعود إلى أصالتنا والاستفادة من دروس تاريخ مآسينا التي تتكرّر وتتكرّر وتتكرّر ولا نتّعظ.

حرام ما يجري، ألم نكتفي بما حلّ بنا، وبالدرك الذي انحدرنا إليه. ألم ندرك بعد أنّ مصلحتنا كلّنا، كمجتمع ووطن، أن نحفظ دولتنا ونحميها ونعزّزها ونحترم دستورها وقوانينها ونكفّ عن السعي لتحقيق مصالحنا الشخصيّة على حساب دولتنا؟ فنيرون، الذي أحرق روما مرّة ليوفّر لنفسه أريحة الغناء والشعر، أرحم من بعض تجّارنا ومجرمينا، الذين يحرقون لبنان وشعبه ومستقبله كلّ يوم، ليوفّروا لذواتهم الجاه والسلطة والمال، ولا يستكينون ولا يرحمون.

البارحة كان عيد العلم وعيد الاستقلال، فبدل الاحتفال والفرح بهما، لم أستطع كبت مشاعر القلق والقرف والإحباط، ولم أتمكّن من كبت دمعتي،  لأنّنا كفرنا بنعمة عظيمة منحنا إيّاها الله وكفرنا با 7 لله..

 


                        
 

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o