Jun 23, 2021 8:13 AM
مقالات

الاتفاق النووي: تحديات وفرص

كتب العميد الركن نزار عبد القادر في "اللواء":

تشدني الأزمات المتعددة الوجوه التي يعاني منها لبنان، كما تشد غيري من الكتّاب للاستمرار في التعليق على الأحداث واستقراء التصريحات ومواقف مختلف القوى السياسية المؤثرة في تشكيل حكومة «مهمة» طال انتظارها، بالرغم من مختلف المساعي التي بذلها الرئيس ماكرون ووزير خارجيته وعدد من موفديه إلى لبنان، كما شارك فيها وزير خارجية مصر وأمين عام جامعة الدول العربية. وكان آخر سعاة الخير في استطلاع المخارج الممكنة للأزمة ممثل الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية جوزيب بوريل، والذي لم ينجح في تحريك مواقف اللاعبين اللبنانيين، لا بل على عكس المتوقع، فقد دفعت زيارته التي ترافقت مع تهديد بفرض العقوبات على المعرقلين إلى جملة من المواقف «المسموعة» كان أبرزها خطاب جبران باسيل المستند إلى «لازمته» بالدفاع عن حقوق المسيحيين، في مواجهة دعوات البابا فرنسيس والبطريرك بشارة الراعي بضرورة الدفاع عن حقوق اللبنانيين، وبالتخلي عن المصالح الضيّقة، بتسريع تشكيل حكومة «اختصاصيين» لإنقاذ البلد وناسه.

لكن تدفعني التطورات الاقليمية وعلى رأسها انتخاب السيد إبراهيم رئيسي لرئاسة الجمهورية الاسلامية، معطوفة على التطورات الدقيقة والمهمة التي بلغتها المفاوضات التي تجري في فيينا حول عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، بعدما كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد قرر الخروج منه، وفرض عقوبات اقتصادية ومالية قاسية بحق إيران وكل من يتعامل معها، تدفعني لمقاومة جاذبية التطورات الداخلية، والتوجه نحو تحليل واستقراء المرحلة الجديدة التي ستشهدها ايران داخلياً، مع التركيز على العوائق والتعقيدات التي يمكن ان تؤخر أو تمنع عودة واشنطن للاتفاق النووي، وبالتالي رفع العقوبات «الخانقة» عن طهران. ولنبدأ بإبداء مجموعة من الملاحظات.

الملاحظة الأولى: في ظل انتخاب رئيس متشدد لا بد من النظر إلى «الصورة الذاتية» التي ترسمها ايران لنفسها في السنوات المقبلة، والتي ستشكل في رأينا انعكاساً لصور التاريخ الإيراني، حيث تختلط صور التوسع والهيمنة العسكرية والثقافية للجمهورية الاسلامية مع صور الفتوحات الكبرى للامبراطورية الفارسية، مع استذكار صور الاحتلال الإغريقي والعربي والتركي والأفغاني والروسي، بالاضافة إلى الهيمنة الأميركية، ويولّد هذا التشابك، رؤية ومقاربة جديدة لدور إيران السياسي تجاه جيرانها والقوى العظمى. وسيترافق مع هذه الذاكرة التاريخية الإرث القوي والعميق لتاريخ التشيع مع كل ما يحمل ذلك من مشاعر الظلم.

الملاحظة الثانية: يؤكد النقاش الداخلي بأن هناك توافقاً بين مختلف القوى والمكونات الايرانية حول حق إيران بامتلاك التكنولوجيا النووية، وتطوير قدراتها على صنع الوقود النووي بشكليه من اليورانيوم المخصب والبلوتونيوم، وبما يرجح وجود طموحات إيرانية تجعل من امتلاكها للسلاح النووي مسألة وقت، قد تطول أو تقصر وفق المقتضيات الدولية. ويرى التيار المتشدد بقيادة المرشد الأعلى علي خامنئي حتمية المواجهة مستقبلاً مع الولايات المتحدة، وبما يجعل السلاح النووي الضمانة الوحيدة لأمن الجمهورية الإسلامية وحماية مصالحها في الإقليم.

الملاحظة الثالثة: تسببت العقوبات الأميركية القاسية التي فرضها ترامب على إيران بأضرار اقتصادية ومالية واجتماعية مؤذية، وهذا ما دفع بالقيادة الإيرانية للترحيب بإعلان الرئيس جو بايدن نيته للعودة إلى الاتفاق النووي. ولا تريد طهران إضاعة هذه الفرصة المتمثلة بالمحادثات الجارية في فيينا منذ نيسان الماضي، والتي اختتمت فيها الجلسة السادسة يوم الأحد الماضي، حيث لم تنتهِ إلى اتفاق جاهز للتوقيع، واقتضى ذلك عودة الوفود إلى عواصمها للتشاور، واتخاذ قرارات صعبة تؤدي إلى قطع المسافات الفاصلة بين مواقف مختلف الأفرقاء المشاركين في المباحثات. 

يبدو بأن إيران ترغب وتستعجل العودة إلى الجولة السابعة لتجاوز ما تبقى من عوائق وعقبات أمام عملية التوقيع وعودة الولايات المتحدة للاتفاق مع الأمل برفع معظم العقوبات المفروضة عليها منذ عام 2018، بما فيها تلك المفروضة على المرشد الأعلى علي خامنئي ومكتبه، وعلى الرئيس إبراهيم رئيسي والحرس الثوري. كما ترغب طهران في عودة الانفتاح الأوروبي على الاقتصاد الايراني، وجذب أكبر قدر من الاستثمارات الخارجية من اجل دعم اقتصادها وانتشاله من حالة الكساد.

وتسعى ايران ايضاً من خلال انجاز الاتفاق الجديد للحصول على مساعدات علمية وفنية من اجل تطوير صناعاتها، بما في ذلك تطوير استعمالها للتكنولوجيا النووية للأغراض السلمية، وبما يضعها في صفوف الدول المتطورة في العالم، وبما يخدم طموحاتها للعب دور مهم على المستويين الاقليمي والدولي.

السؤال المطروح الآن حول الوضعيات المتوقع تحقيقها في الجولة السابعة من المفاوضات، حيث أشارت تصريحات مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان وبعض المشاركين في مفاوضات فيينا إلى حصول تقدم محسوس في المفاوضات، مع التحذير من صعوبة مد الجسور لسد الثغرات الباقية، والتي يبدو بأن على واشنطن اتخاذ معظمها بالتنسيق مع بعض حلفائها الاقليميين وعلى رأسهم الحكومة الاسرائيلية الجديدة، والتي أوفدت بعض قياداتها العسكرية والأمنية إلى واشنطن لهذه الغاية.

في ظل هذه المرحلة الصعبة للتغلب على العقبات المتبقية، لا تتوقع المصادر الغربية القريبة من المفاوضات ان يشكل انتخاب ابراهيم رئيسي المتشدد أية عقبة اضافية للتوصل للاتفاق، حيث ان القرار في هذا الموضوع سيعود حصراً للمرشد خامنئي. ويعتقد هؤلاء بأنه في حال التوصل إلى اتفاق قبل تسلم رئيسي للحكم في آب المقبل، فإن هذا الأمر سيحمّل الرئيس حسن روحاني مسؤولية أية انتقادات او انتكاسات يمكن ان يتعرض لها الاتفاق الجديد، في الوقت الذي سيستفيد فيه رئيسي من المكاسب الناتجة عن رفع العقوبات الأميركية.

لكن في المقابل، فإنه بالرغم من أهمية التوصل إلى تجاوز جميع العقبات للتوقيع على الاتفاق، والذي سيؤدي حتماً إلى إزالة مصدر أساسي للتوتر الاقليمي، فإن ذلك لن يكون كافياً لتغيير اجواء العداء وعدم الاستقرار السائدة في المنطقة. فالاتفاق سيبقى عرضة لانتكاسات مستقبلية، مع توقع استمرار حالة العداء بين طهران وواشنطن والتي تضعهما في حالة مواجهة مع بعضهما في كل الصراعات التي يشهدها الشرق الأوسط.

من المؤكد ان ادارة بايدن ترغب بالتفاوض مع ايران على اتفاق ملحق للاتفاق النووي الحالي، وذلك قبل انتهاء فترة الالتزام ببعض الضوابط عام 2023، المنصوص عنها في اتفاق عام 2015، لكن لا يمكن لأحد ضمان موافقة الرئيس ابراهيم رئيسي للدخول في هكذا مفاوضات جديدة. في رأينا ستبقى موافقة طهران مربوطة بمدى ما يمكن أن تحققه من مكاسب جديدة في علاقاتها مع واشنطن، ودون أن يحد ذلك مما تسعى اليه من مكاسب كبرى على المستوى الاقليمي. يمكن لحكومة رئيسي ان تنخرط في مثل هذه العملية التفاوضية الجديدة اذا شعرت بأنها في وضع اقوى وافضل من وضع حكومة روحاني في المفاوضات السابقة، والتي أدت إلى عودة واشنطن للاتفاق، لكن تبقى الصعوبة في مدى توافر الإرادة الحسنة لدى الفريق المتشدد والذي يقوده رئيسي، والذي يلتقي مع فكر المرشد خامنئي ومواقفه المتشددة تجاه الولايات المتحدة والغرب عموماً.

يبقى هناك احتمال عدم النجاح في اقفال الفجوات الراهنة في الاتفاق قبل تسلم ابراهيم رئيسي لصلاحياته الرئاسية، اذا حدث ذلك فان الاتفاق سيفقد مبرراته وقدرته على تحقيق النتائج المرجوة سواء لجهة رفع العقوبات الأميركية عن إيران أو لجهة التزام ايران بالتراجع عن كل الخروقات التي قامت بها منذ 2019 وخصوصاً لجهة التخلي عن قدراتها لتخصيب اليورانيوم حتى مستوى 60 في المائة. ستضع إمكانية عدم قبول رئيسي بالدخول في مفاوضات جدية ومثمرة المنطقة أمام مواجهة خطيرة جديدة بين ايران من جهة، وأميركا وإسرائيل من جهة ثانية، والتي قد تؤدي إلى حرب اقليمية لا تحمد عقباها.

تدرك الولايات المتحدة والدول الأوروبية بالتأكيد صعوبة التفاوض مع الحكم الايراني المتشدد بقيادة رئيسي، وما سيترتب عليه من اثمان سياسية، خصوصاً وأن رئيسي خاضع للعقوبات الأميركية على ارتكاباته باعدام عدد كبير من مواطنيه عام 1988. ويبقى الأمل الوحيد للنجاح ممثلاً بإدراك الجمهورية الاسلامية لحاجتها لخارطة طريق جديدة تفتح امامها مرحلة انتقالية لتدارك مستوى المقاطعة الشعبية للحكم الراهن، والذي ظهّرته النسبة المتدنية للمشاركة في الانتخابات الرئاسية.

في النهاية، يبقى الأمل في أن تدرك القيادة الايرانية بأن موازين القوى العسكرية التقليدية مع أميركا وحلفائها الاقليميين ليست لصالحها، وبأن استراتيجيتها في ما تسميه «الدفاع المتقدم» بمواجهة خصومها في سوريا والعراق واليمن ولبنان بخوض حروب «اللاتماثل» وبالوكالة، بالاضافة إلى تطوير صواريخها الباليستية لن تكون في المستقبل كافية لحماية إيران من حرب مباشرة تستهدف أراضيها.

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o