Aug 09, 2020 8:34 PM
مقالات

بيروت.. لن تموت

كتب عبدالله بو حبيب:

نشرت مقالات عديدة قبل الانفجار الكبير في بيروت وبعده تتكهن ان لبنان مات او سيموت. قرأت، في هذا السياق، عدة مقالات باللغتين العربية والانكليزية، كان آخرها للسفير الاميركي الأسبق لدى لبنان جيفري فلتمان. هذه المقالات تؤلمني، كما تؤلم كل لبناني شريف، خاصة أهل الانتشار الذين، وان اصبحت لديهم جنسية اخرى، ما زال ارتباطهم بلبنان قوياً، لا بل ازلياً.

لم تصبح بيروت، كما عرفها عشرات الملايين من البشر، كما هي بيروت، لان المال تدفق اليها، او بفضل موقعها الاستراتيجي، او لأنها ملاذ اللاجئين اليها، او، او…

اصبحت بيروت لؤلؤة الشرق، لا بل  لؤلؤة المتوسط لان شعبها حي يرفض ان يموت. شعب يحمل معه الفرح والسعادة والعيش الحلو والرفاهية اينما يحل. شعب يصنع الافكار الجديدة ويطور الافكار المستوردة ويجعل منها واقعا. شعب عُرِفَ بالريادة والتجدد. شعب لا يمكن ان ينكسر.

ليست المرة الاولى التي ينعى فيها الغيارى عاصمتنا بيروت. هُدمت ماضياً وهدمت حديثاً.. وقامت. قامت لان كل اللبنانيين يعتبرونها مدينتهم. قامت لان شعبها يتصف بالحيوية والابتكار والفرح. لا مؤسسات رسمية أو محلية تنظم اعمالهم وجهودهم وتسهل امورهم غداة حادثة 4 آب/أغسطس 2020. هم بادروا بشكل عفوي إلى تنظيف عاصمتهم بعد الانفجار الكبير. لم ينتظروا لا البلدية ولا المحافظة ولا الحكومة ولا أية جهة رسمية. هكذا شعب لا يمكن ان يموت وليس للحبيبة بيروت سوى النهوض مجدداً لتصبح عاصمة الإنسانية والتعايش والحوار والفن والثقافة والادب واللهو.

تذكرت لقاء جمعني بالصحافي جون غوشكو من “الواشنطن بوست” بعد ان خرجت قوة “المارينز” من لبنان في ربيع العام ١٩٨٤. بادرني فور وصوله الى سفارة لبنان في واشنطن بالقول، “هذه زيارتي الاخيرة لك. انسحب “المارينز” من لبنان وصحيفتي باتت لا تهتم باخبار بلدكم”. لم يمض شهر على اللقاء حتى عاد غوشكو يطلب موعدا لزيارتي وكان ذلك بعد خطف الاميركي الاول في لبنان. بادر غوشكو في هذه الزيارة إلى القول لي: “مهما حاولنا ان ننسى لبنان، تجبرنا التطورات والاحداث الى العودة اليكم”.

ليست الاحداث السيئة وحدها التي تجذب الانظار والتقدير الى لبنان. اذكر ايضا مؤتمرا اكاديميا عقد في جامعة شيكاغو عام ١٩٦٤ لتبادل الاراء حول نجاح لبنان في تزاوج الديموقراطية والتعددية والحياد. لبنان الستينيات حصل على اعجاب العالم الغربي والعربي والشرقي. ولمست عندما تركت لبنان الى الولايات المتحدة (١٩٧٠) لاكمل دراستي العليا في الاقتصاد ان لبنان وطن مميز. زملاء كثر في الجامعة كانوا يخبرونني بفخر انهم مروا في لبنان، واخرون من اميركا اللاتينية يروون لي سيرة نجاح اللبناني وفرادته في بلدانهم، وفي شتى الاصعدة، السياسية والمالية والتجارية والانمائية.

ان افضل توصيف قرأته عن عقد الستينيات كان للسفير الاميركي ادوارد دجرجيان في مذكراته “الفرصة والخطر”، مع التذكير أنه خدم كدبلوماسي مبتدئ في سفارة بلاده في لبنان من العام ١٩٦٥ الى العام ١٩٦٨.

يقول دجرجيان “حَضرتْ في لبنان كل التيارات السياسية في العالم العربي. كانت بيروت تنبض بالانشطة السياسية والثقافية والفكرية والمالية. شرق امتزج بغرب. احاديث تجري بلغات متعددة من دون انقطاع ولا تردد. اطياف كثيرة من التجمعات والاحزاب اليسارية واليمينية تشرح وتدافع عن قضاياها بحرية. كانت بيروت ايضا مركزا مهما للتنصت ومرتعا للجواسيس في الشرق الاوسط، وصورة مصغرة للسياسات والاتجاهات العربية، والصراع العربي الاسرائيلي، والتنافس في الحرب الباردة. صورة بيروت ولبنان في تلك الفترة كانت بمثابة بلد التسامح الذي تتعايش فيه بسهولة الثقافات والاتجاهات والديانات المختلفة”.

ارسى الرئيس الثالث للجمهورية فؤاد شهاب عقد الستينيات على اسس متينة واعتمد على الحداثة والعصرنة وبناء المؤسسات. وبينما كانت سياسة سلفه كميل شمعون الخارجية تعتمد على التحالف مع الغرب والدول العربية الحليفة له، اعلن فواد شهاب ان لبنان “مع العرب اذا اتفقوا وعلى الحياد اذا اختلفوا”. صادق الرئيس جمال عبد الناصر من دون ان يزعج السعودية، وصادق الغرب من دون ان يغضب الاتحاد السوفياتي. اصبح لبنان ملتقى الجميع. قصده سواح وجواسيس من كل انحاء العالم واشتهر بكرمه وجماله وجباله ووديانه وبحره وفنادقه وباراته ومقاهيه ومدارسه وجامعاته ومراكزه الصحية. كان ملتقى الشعراء والكتاب والفنانين، كما اصبح مركزا للنشر والتسويق.

ولكن عليّ الاعتراف، ان هذا النهوض الاقتصادي والثقافي والسياحي لم يستمر طويلاً. ان بروز المقاومة الفلسطينية بعد نكسة ١٩٦٧، وتحديداً بعد اخراجها من الاردن في ايلول/ سبتمبر ١٩٧٠ وتمركزها في لبنان، أدى إلى تغيير قواعد اللعبة وانقسم اللبنانيون بين مؤيد لحرية العمل الفدائي المسلح ومعارض له. بقي الخلاف بين اللبنانيين حتى بعد خروج المسلحين الفلسطينيين منه في صيف ١٩٨٢. تدريجياً، انتقل لبنان من بلد يسوده الاستقرار الى بلد رجراج شهد حروبا دامت ١٥ عاما، واستقطبت بالاضافة الى الفلسطينيين وسوريا، اسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا والامم المتحدة، وانتهت بوصاية سورية دامت ايضا ١٥ عاما.

منذ العام ٢٠٠٥، تاريخ إنتهاء حقبة الوصاية السورية، يشهد لبنان حالة من الفوضى السياسية وتغييرا في الاسس التي بني عليها النظام اللبناني منذ الاستقلال، وطبعا في ظل ظاهرة وجود جيش اخر من ابنائه له امتداده الاقليمي.

ويجب ايضا الاعتراف ان الخلاف بين اللبنانيين على اشده. هناك خلاف على كل شيء وليس فقط على سلاح حزب الله. لا نستطيع ان نتفق على كيفية جمع النفايات وصناعة الكهرباء. كل الدلائل تشير الى ان لبنان بلد فاشل. ثمة إنطباع تكون لدينا بعد زيارة وزير خارجية فرنسا جون ايف لودريان، بأن هناك من يحضر مراسم الدفن للبنان. واذ.. وقعت الفاجعة الكبرى. انفجر مرفأ بيروت وهدمت احياء العاصمة وزارنا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لتضميد الجراح ولابلاغ القيادات التي اوصلتنا الى هذا المستوى الانحداري، ان العالم، كل العالم، مستعد لمساعدة اللبنانيين شرط ان يساعدوا انفسهم اولا.

باختصار، شهد لبنان في ستينيات القرن الماضي عشر سنوات من الاستقرار والازدهار في ظل امن لبناني متشدد نوعيا، ونظام اقتصادي ليبرالي، وسياسة خارجية اعتمدت الحياد الايجابي عربياً ودولياً. السنوات والعقود المتبقية إتسمت إما بالحرب أو بعدم الاستقرار. لا اجزم هنا ان الحياد ياتي بالاستقرار، لكن لبنان نعم بالاستقرار في السنوات التي اعتمد فيها الحياد الايجابي. كذلك لا يمكن ان يكون هناك حياد من دون إجماع المكونات اللبنانية ومن دون موافقة كل البلدان المعنية بما يجري في لبنان. حياد الستينيات تحقق باجماع لبناني واقليمي ودولي، وانتهى عندما اختلف اللبنانيون حول حرية العمل الفلسطيني المسلح.

اعتقد ان بكركي طرحت مشروع الحياد لا حباً بالحياد، انما لأن لبنان بات حالياً مشرذماً واللبنانيون اكثر من اي وقت مضى باتوا يشعرون ان نظامهم بحاجة الى تغيير وان لبنانهم مهدد بالتقسيم والانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأن قبولنا جميعا بالحياد يبعد عنا الشرور التي قد تصيبنا جميعا من الحالة الراهنة والمستمرة في الانهيار. علاوة على ذلك، ان الحياد تجربة لبنانية ناجحة كما تم التنويه اليه سابقا.

الحياد ليس هدفا بحد ذاته. الهدف هو انتشال لبنان من المأساة التي يعيشها ابناءه. هناك من طرح الاتجاه شرقا ومعاداة معظم العرب والغرب. اخرون طرحوا الفدرالية ومنهم من ما يزال متمسكاً بمشروعه التقسيمي، واخيرا وليس اخرا، اتفاق الطائف طرح اللامركزية الادارية الموسعة مع مجلسين تشريعيين. نشر لي موقع “بوست 180” مقالين (رابطهما أدناه) عن هذا الموضوع وأنا أميل شخصياً إلى تطبيق مندرجات إتفاق الطائف. لكن الحياد والمشاريع الاخرى تستدعي من الكل حوارا ايجابيا للخروج من اخطر زمن وصل اليه لبنان.

ان الحالة الراهنة في لبنان لا تطاق واللبنانيون تعبوا من استمرارها. اللبنانيون مختلفون وما يحدث يزيد الفجوة بينهم. الانفجار الكبير في مرفأ بيروت هو انذار للجميع ان لبنان قد ينتقل من دولة فاشلة الى اللاوجود. ربما نحن بحاجة الى مؤتمر وطني للمصالحة الوطنية الشاملة حتى ندرس امكانية استمرار العيش معا ومن ثم صياغة نظام جديد لحياة كريمة ومستقرة لكل اللبنانيين. كفانا مناكفات وتصفية حسابات. لنبدأ من جديد ونعيد بناء بيروت ولبنان.

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o