May 11, 2020 10:17 AM
مقالات

٣٦٥ بدون مار نصرالله...

كتب رئيس "حركة التغيير" ايلي محفوض في مناسبة الذكرى السنوية الاولى على رحيل البطريرك الماروني الكاريدنال مار نصرالله بطرس صفير "كانت السابعة والربع من مساء ذاك الحادي عشر من ايار ٢٠١٩. وصلت الى مستشفى أوتيل ديو ليستوقفني مزار للعذراء مريم تمّ إستحداثه على الرصيف مع جمهرة صبايا وشباب يحملون الشموع في أيديهم ويصلّون على نيّة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير.

شدّني أحدهم صوبه وقال: أضيء شمعة على نية سيدنا... نحن هنا لا نفارق المكان نصلّي كي يطيل الله بعمره...

وفور الدخول الى بهو المستشفى، يأخذني بيدي الطبيب الخاص للبطريرك الدكتور الياس صفير متوجهًا بي الى الغرفة التي كان يستريح فيها المحارب الشرس في سبيل إستقلال لبنان.

قبيل الدخول الى الغرفة فوجئت بوجوه كثيرة طلبت زيارته لكن كان ذلك ممنوعًا خصوصاً في الساعات الأخيرة قبيل رحيله.

إنتظرنا حتى غادر الجميع وكانت قرابة الثامنة فدخلنا الدكتور صفير وأنا لأشاهد وأشهد على إبتسامة ترتسم على وجه بطريرك غير عادي في زمن إستثنائي.

وقفت أستريح في عيونه حيث السلام يسكنهما.. مزيجٌ من شعور البهجة والحزن اعتراني في تلك اللحظة.. إبن التاسعة والتسعين يرقد وخارج غرفته في كل بيت وحارة وعائلة صلوات تُرفع على نيّة مار نصرالله.

ومع كامل التقدير والإحترام لغبطة أبينا مار بشارة الراعي، لكن رحيل صفير بدّل الكثير في بكركي التي كانت محجًا لجميع اللبنانيين يقصدونها لرمي همومهم وأسرارهم عند سيد الصرح الجالس على كرسي لا يشبه كل الكراسي والمناصب والمراكز مهما علا شأنها..

مسلمون ومسيحيون، شيعة وسنّة ودروز لم ينقطعوا عن لقاء صفير في عزّ هيمنة الاحتلال السوري، حيث يقفون عند رأي سيد بكركي أحيانًا وأحياناً أخرى للثناء والتشجيع على عظة كان ينتظرها اللبنانيون صبيحة كل أحد ليبنوا على موقف صفير يومياتهم السياسية.

طيفه وهامته وهالته دفعوني للقول عشية وفاته: اليوم تبدأ حبرية سيدنا مار بشارة..

ما لا يعرفه الكثيرون عن نصرالله صفير مبدئيته الراسخة وصلابته المتجذرة في عقله التدبيري الراجح.. مرات ومرات حاول النظام السوري إستمالته لكن نصرالله صفير كان أقوى من كل دبابات الاحتلال وعسكره ومخابراته. وصلت بهم الأمور الى حد اللجوء الى بعض الأساقفة لينقلوا رسائل القيادة السورية الى سيد بكركي لكنهم فشلوا فوجدوا ضالّتهم بالزيارة المنتظرة لقداسة الحبر الأعظم يوحنا الثاني الذي كان على علاقة لصيقة بصفير، وما كان يجمعهما أعمق من مجرد علاقة الكنيسة المارونية بكنيستها الأم. فظنّوا أنها فرصتهم للنيل ممن أعطي وحده مجد لبنان والذي سينتقل حتمًا الى سوريا لمرافقة البابا، لكن حسابات السوريين كانت خاطئة لا بل مغلوطة لأنهم لم يقرأوا في إبن صفير جيدا. لم ينتقل واستطاع إفهام البابا وجهة نظره الكيانية والسيادية.

"لا أذهب الى سوريا الا ورعيتي معي"..

قبل ٤٨ ساعة من النداء الشهير للمطارنة الموارنة ذهب غباء عقل النظام السوري مرة جديدة في محاولة توددية إسترضائية لصفير، فقد نصح أحد الأمنيين اللبنانيين المتعاملين بزمن الاحتلال مع النظام السوري كي يبادر بشار الاسد نحو بكركي باعثًا برسالة فيها الكثير من التودد وعبارات المجاملة والإطراء لكن جواب صفير كان واضحًا  من خلال بيان المطارنة: على العسكر السوري أن يرحل فوراً.

 

٢٥ سنة من التواصل المباشر مع البطريرك بدون إنقطاع كوّنت محبة متبادلة غمرني بها ولفّني بعاطفته الطاغية ليتوّجها بزيارة الى منزلي يوم عيد ميلاده الرابع والتسعين. البساطة والتواضع كانا بالفطرة يطبعان شخصيته. رجل مثل نصرالله صفير قليل الكلام لكنه كثير التعبير. والأبرز تلك الروح المرحة والإبتسامة الواضحة التي كان يرسمها أمام ضيفه وكأنه بها يقول انا مرتاح لرؤيتك. كرر الزيارة.. ولا أدري لماذا باتت زياراتي للصرح، أكان في بكركي أو في الديمان، دورية حتى أنها في مراحل محددة كانت أسبوعية. وكان المنبر صوت الذين لا صوت لهم.. لم يكن تفصيلًا بسيطًا أن تبدأ نشرات أخبار المساء بنشاط بكركي ومواقفها وزوارها. الرجل جعل من الصرح ملاذًا وملجأ لكل مضطهد وملاحق من الأجهزة الأمنية. وكانت السلطات القائمة بزمن الاحتلال السوري ترصد عظاته أسبوعيًا لأهمية الوقع الذي كانت تتركه على الصعيد الوطني.

يقول أحد أبرز مساعدي الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي نقلا عن رئيس بلاده: لما التقي البطريرك اشعر بهالة غريبة وباحترام فوق الطبيعي لهذا الرجل..

٣٦٥ يوما بدون صفير معنا.. وبدون أن يملأ فراغه أحد. نتطلع لنماذج تشبه صفير في كل المواقع والمرجعيات. وهذه الكنيسة عرفت بطاركة عظاماً لن تبخل بالمزيد من طينتهم.. ويطيب لي بالذكرى السنوية الأولى لغيابه نشر النعي لحظة وفاته:

"لأن المجد لا يموت ورحيل الكبار ليس موتاً بل انتقالاً الى حضن الآب السماوي، سيبقى البطريرك مار نصرالله بطرس صفير  يملأ يوميات تاريخ لبنان، فلنرفع صلواتنا لمن نكّه الوطن بنفحات العطر الإستقلالي ولمن أعطى اللبنانيين كل الأمل بالتحرير. يكفينا فخرا أننا عايشناك فكان الزمن زمن نصرالله صفير".

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o