May 06, 2020 9:05 AM
مقالات

إجراءات لبنانية فورية.. قبل الإستعانة بالخارج

يقدم كل من الدكتور صالح منير النصولي والدكتور عبدالله بو حبيب مقالة تستحق أن تكون ورقة عمل توضع على جدول أعمال أهل الحكم والحكومة، بما تتضمنه من أفكار وإقتراحات محددة حول الإجراءات الواجب أن تتخذها الحكومة اللبنانية فوراً، بدل إنتظار مساعدة الخارج لها. ولعل قيمة هذه الأفكار والإقتراحات تنبع بالدرجة الأولى من خبرة من تقدما بها؛ فالمنصب الأخير للدكتور النصولي في صندوق النقد الدولي حيث خدم مدة 40 عاماً تقريبا، كان مدير المكاتب الأوروبية. وتنقل في مناصب عديدة رفيعة المستوى وتفاوض على العديد من برامج التكيف الاقتصادي الكلي وإعادة الهيكلة المالية مع دول شرق اوسطية وافريقية. وهو مؤلف كتب ودراسات ومقالات أكاديمية تتمحور بالدرجة الأولى حول السياسات الاقتصادية والمالية. أما الدكتور بو حبيب، فهو صاحب خبرة عشرين سنة في البنك الدولي، وسبع سنوات في العمل الديبلوماسي، في سفارة لبنان في واشنطن، في مرحلة تاريخية دقيقة (ثمانينيات القرن الماضي)، كما أنه أدار مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية على مدى عشر سنوات (2007ـ 2016)، وصولا إلى قربه من صنّاع القرار في لبنان في السنوات الأخيرة. وهو مؤلف ويكتب باستمرار مقالات في الصحف والمواقع اللبنانية (180).

يواجه لبنان، اليوم، أزمة اقتصادية كبيرة بسبب السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية وتفشي الهدر والفساد على مدى عقود من الزمن. تجلى انعدام النمو الاقتصادي والبطالة المتفشية، في عدم توفر العملة الصعبة منذ العام الماضي. كذلك، أضاف الوقت الطويل – ثلاثة اشهر – الذي استغرقته الحكومة للاتفاق على سياسة اقتصادية ومالية، الى تفاقم الأزمة وازدياد خطورتها على كافة الأوضاع في لبنان. ان هذه الوثيقة التي اقرتها الحكومة الأسبوع الماضي هي من دون شك طموحة، ولكن من الواضح أن لبنان ما يزال بحاجة الى خارطة طريق متناسقة لتحقيق الأهداف المطلوبة.

وعلى الرغم من وجود عوامل عديدة سبّبت هذه الأزمة، إلا أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية ومتداخلة تفسر الوضع الحالي:

أولاً، سياسة سعر صرف الليرة: كان لبنان من أوائل الدول في العالم التي تبنت سياسة سعر الصرف العائم بعد الحرب العالمية الثانية، والتي خدمت لبنان بشكل جيد لعدة عقود، مع معدلات نمو صحية واستقرار مالي وقطاع مصرفي مزدهر، فاستحق لبنان، وقتذاك، لقب “سويسرا الشرق”.

في العام ١٩٩٧، تخلى لبنان عن سعر الصرف العائم وثبّت سعر الصرف على قيمة مبالغ فيها، مما عزّز الاستيراد وأضر بالإنتاج المحلي وشكّل فعلياً دعماً لكل السلع والخدمات المستوردة، وادى ذلك الى تفاقم اختلال التوازن الخارجي.

ثانياً، أسعار فائدة مرتفعة بشكل مصطنع: اعتمد لبنان لسد اختلال التوازن الخارجي على تدفقات العملة الصعبة التي اجتذبها سعر الفائدة المرتفع والمتزايد – بلغ سعر الفائدة على الليرة حوالي ٤٥٪ في منتصف تسعينيات القرن الماضي وبقيت حوالي ٢٠٪ لغاية أوائل هذا القرن – لدى المصارف التي كانت مدعومة بأسعار فائدة أعلى على ودائعها في البنك المركزي وسندات الخزينة الحكومية، وقد إجتذبت أسعار الفائدة المرتفعة العملة الصعبة من الانتشار اللبناني وبالأخص من متمولين خليجيين. استخدم البنك المركزي المبالغ الهائلة لدعم سعر صرف الليرة وسد العجز في الموازنة العامة ودعم السلع والخدمات المستوردة، مما أضر بالقطاعات الإنتاجية المحلية، ومنها الصناعة والخدمات والسياحة والزراعة. كما أن أسعار الفائدة المرتفعة أثقلت الموازنة بشكل متزايد، الأمر الذي تم تمويله بزيادة الاقتراض.

ثالثاً، دعم شركة كهرباء لبنان: ان فشل الحكومات المتعاقبة منذ انتهاء الحرب اللبنانية  (1990) في إصلاح قطاع الكهرباء ألزم الدولة بتوفير دعم مستمر لشركة كهرباء لبنان. تفاقم الدعم مع ارتفاع أسعار البترول وابقاء تعرفة الكهرباء تقريبا كما كانت في تسعينيات القرن الماضي، مما استلزم دعما حكومياً ضخماً. أدى كل ذلك الى عجز كبير في موازنة الدولة وشكل لغايته ما يقارب ٤٥ ٪ من إجمالي الدين العام.

باختصار، مع تصاعد الدين العام، واعتماد المصارف بشكل متزايد على الفائدة العالية على ودائعها في البنك المركزي وسندات الخزينة، وتفاقم عجز الموازنة، وزيادة اختلال التوازن الخارجي، بدأت الثقة في النظام المصرفي تتلاشى وبدأ تدفق العملة الصعبة يتعثر. كان تأثير هذه العوامل كبيراً على الاستمرار بدعم سعر الصرف وبالتالي دعم الاستيراد، خاصة بعد ان نفدَ القطاع المصرفي فعليا من العملة الصعبة الطازجة. انعكس هذا كله على القطاع المالي بعدم قدرة المصارف على الوفاء بالتزاماتها بالعملة الصعبة، وانخفاض سعر صرف الليرة لدى الصيارفة وتخلف الحكومة في اذار/مارس الماضي عن سداد مدفوعات الدين العام. كما ساهم انعدام الشفافية والثقة في البيانات الرسمية في فقدان الثقة في النظام المصرفي، مما أعاق اعتماد السياسات المالية العامة السليمة.

في ظل هذه الظروف، يفتقر لبنان حالياً إلى المصداقية لتأمين أية مساعدة مالية من الدول المعنية بالشأن اللبناني أو من المؤسسات المالية الدولية.

ان احتياجات لبنان للعملة الصعبة وحل الأزمة يعتمدان بشكل حاسم على سياسات واجراءات حكومية اقتصادية ومالية ونقدية وعلى وجوب تنفيذها بسرعة وفعالية. كما يتطلب ايضاً جهداً كبيراً  للقضاء الحاسم والحازم على الفساد المنتشر. ومن أجل البدء بمعالجة الأزمة واستعادة الثقة داخلياً واقليمياً ودولياً، لا بد من إجراءات رئيسية هي الأكثر الحاحاً:

1.العودة فوراً الى اعتماد لبنان سعر صرف عائم يعكس واقع الاقتصاد وقوى السوق، وبالتالي إلغاء دعم الليرة والحد من تدخل البنك المركزي في سوق الصرف. ولأجل تخفيف تأثير ذلك على المواطن اللبناني، ثمة ضرورة بتعليق الضرائب على الدواء والمستلزمات الطبية. ونظرا لانخفاض أسعار البترول، يمكن تعليق جميع الضرائب على المنتجات النفطية وعدم اعتماد الحد الأدنى لأسعارها خلال العام ٢٠٢٠، بإلاضافة الى الاستمرار في دعم الطحين على أساس انتقالي (لمرحلة زمنية محددة).

2. التأكد من استمرار التدقيق المستقل والمقرر لحسابات مصرف لبنان المركزي وجميع المصارف اللبنانية التجارية على ان يتم استكمالها في غضون شهر. يهدف التدقيق الى تقييم الوضع الحقيقي للقطاع المالي من اجل صياغة سياسات نقدية ومالية ذات مصداقية تستعاد بموجبها ثقة اللبنانيين بالقطاع المصرفي.

4. طمأنة المودعين بسلامة كل ودائعهم وإلغاء الحدود للسحب بالليرة من حساباتهم المصرفية، أكان بالعملة المحلية أو الأجنبية، ووضع حد لسحب المبالغ بحوالي خمسة آلاف دولار شهرياً، مع زيادة تدريجية لهذا السقف. على البنك المركزي ان يوفر السيولة اللازمة بالليرة للمصارف التجارية وتخفيض نسبة الاحتياطي المطلوب على ودائع المصارف بالدولار لتلبية طلب المودعين بالعملة الأجنبية. لن يمانع المودع إذا كانت سحوباته بالليرة او الدولار في ظل اعتماد سعر صرف عائم موحد لليرة.

 5. إلغاء جميع الضوابط على أسعار الفائدة في المصارف التجارية، وتحديد أسعار الفائدة على ودائع المصارف التجارية لدى البنك المركزي بما يتوافق مع مستويات الفائدة الدولية.

6. إلغاء القيود المفروضة على المدفوعات الجارية على المواطنين العاديين والمستوردين من الخارج، مع الحفاظ على القيود لخروج رؤوس الأموال من لبنان.

7. تلزيم إنشاء معامل كهرباء جديدة وإصلاح المعامل القائمة بعد اجراء مناقصات شفافة وفقاً للمعايير الدولية، وبأقل كلفة ممكنة على موازنة الدولة. من الأفضل ان تنفذ هذه بآلية BOT  او الاستدانة من المؤسسات الانمائية الدولية أو الإقليمية. وفي الوقت ذاته، يجب مراجعة شطور التعرفة لشركة كهرباء لبنان بما يتماشى مع تكاليف إنتاجها، ودراسة اعتماد تعريفات متدرجة بحسب مستويات الاستهلاك، وتحقيق المزيد من الدخل للشركة والدولة من خلال التحسينات التقنية والجباية المتشددة وزيادة ساعات التغذية. ان بدء العمل بهذا البند من الضروريات الأساسية لان كلفة استمرار الحالة الراهنة باهظة جداً على اللبنانيين والموازنة وميزان المدفوعات والدين العام.

اضافة الى ذلك كله، على الحكومة ان تبدأ بوضع خارطة طريق متماسكة ومدروسة بعناية لاجراءات متناسقة للعام ٢٠٢٠ وعلى المدى المتوسط لإصلاح القطاع العام، وتعزيز إدارة الضرائب، وتحديد أولويات الإنفاق، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد الفاحش، وتسهيل عمليات الاستثمار المحلي والخارجي. كذلك، ان إصلاح  القضاء حاجة ملحةً جداً حتى يستعيد القطاع الخاص المحلي عافيته ومكانته في اقتصاد لبنان، ومن اجل اجتذاب الاستثمارات الخارجية.

ان تنفيذ هذه الاقتراحات يُعتبر ضرورياً وقد لا تحتاج الحكومة بعد تنفيذها إلى مساعدة خارجية. وإذا بقيت هناك حاجة الى مساعدات بعد تنفيذ الإجراءات والسياسات المقترحة، سيستطيع لبنان الحصول على دعم أقوى من المؤسسات الدولية، ومنها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدول المعنية باستعادة لبنان استقراره الاقتصادي.

إن تأجيل البدء بتنفيذ مثل هذه الإجراءات بانتظار المفاوضات مع صندوق النقد، لن يزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية فحسب، بل سيساهم أيضاً في فقدان الثقة، وسيتطلب ذلك من لبنان إجراءات تصحيحية أقوى وأكثر إيلاماً.

ان المؤسسات الدولية والدول المانحة ستدعم لبنان، إذا أثبت أنه مصمم على مساعدة نفسه قبل طلب مساعدتهم.

د. صالح نصولي و د. عبدالله بو حبيب

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o