Apr 21, 2020 10:05 PM
مقالات

ذاكرة الحرب الأهلية في زمن الكورونا

وسط جائحة تهدد مصير الإنسان وتطال كل أمم الأرض، كبيرها وصغيرها ، فقيرها وغنيها ، المتقدم منها والطامح إليه، تطرح الأسئلة الكبرى التي تتطرق إلى معنى السياسات بكل متفرعاتها من العلاقات الدولية ، وهياكل السلطات وأنماط الإنتاج ، إلى التعاطي مع البيئة ، وجهوزية البنية الصحية... والأهم من هذا وذاك منظومات الأفكار والممارسات التي تتعاطى فيها المجتمعات مع بعضها بعضاً.

وفي ما لبنان وطننا، هذه الدولة الصغيرة المتواضعة يواجه كسواه هذا الوباء، وسط تعثر سياسي ومالي ونقدي ومعيشي، مرت ذكرى اندلاع الحرب الأهلية التي اضطرمت في البلاد بين الأعوام 1975 – 1990 للمرة الخامسة والأربعين، وكأنها لم تترك لدى البعض العِبر الكافية للإفادة من دروسها. بل يكاد المرء يتصور أن البعض يرغب في استعادة سيرته وسيرتها. وكأن أجيالاً لم ترحل، وأجيالاً لم تولد في غضون تلك السنوات. أو كأن العالم بكل ما فيه ومن فيه لم يتغير بالقدر الكافي طوال هذه العقود .

ومما لاشك فيه أن تلك الحرب كانت نتيجة تقاطعات دولية واقليمية معروفة ، تفجرت عندما سقطت على بُنية قابلة للاضطرام أصلاً وبالأساس. لن أعيد شرح الاشتباك الدولي بين المعسكرين السوفياتي والاميركي ومسارحه الكبرى والصغرى ، ولا الظروف التي نجمت عن عدوان اسرائيل على الدول العربية عام 1967 واحتلالها الضفة الغربية الاردنية يومها ، وقطاع غزة وسيناء المصرية والجولان السوري... فقط أؤكد على حقيقة باتت معروفة أن لبنان حينها كان يعيش وسط هذا التجاذب، ولم يستطع أن ينجز أو يبتدع المعادلة التي تمكنه من النفاذ منه ، بفعل الاصرار على البناء السياسي – الاقتصادي الذي اعتمده لدى قيام دولته المستقلة في العام 1943 ، رغم ما ظهر من عيوبه في العلاقات البينية لمكوناته، والحرمان الذي طال مناطق وفئات واسعة من أبنائه. والكل يعلم دون شك أن التجربة الرائدة التحديثية التي أطلقها الرئيس الراحل فؤاد شهاب قد جرى وأدها، وحصار ما أرست بناءه من مؤسسات وعلاقات وعدالة اجتماعية تحتضن ولا تنبذ، تنمّي بدل أن تقمع، تبني المدرسة والطريق والمستشفى بديلاً عن السجون واستعمال العسكر لضبط الحراك الاجتماعي .

كل هذه عوامل فعلت فعلها في تجميع عناصر الانفجار، براميل من البارود مع شرارات مندلعة في المحيط وعلى طول العالم وعرضه. لم يتدبر اللبنانيون كيف يمكن أن تعالج كل هذه العوامل، ويصيغوا لوطنهم المعادلات التي تحمي وتحافظ على البناء . وكان انقسامهم أوضح من عين الشمس ولا تخطئه الأعين، وويتردد على الألسن التي تلهج بالمواقف اليومية من هذا الجانب أو ذاك ، فكان أن اندلع القتال. والمؤسف أن الذين تجرأوا على نقد الحرب وطروحاتهم ومواقفهم بالذات في تلك المرحلة كانوا قلة قليلة، وذهب نقدهم في مهب الأيام ولم يتوقف الكثيرون عند دلالاته وأهميته.

الآن، وكما هي عادة اللبنانيين يبحثون عن طرف خارجي لتحميله المسؤولية ، وابتدعوا تلك المقولة الشهيرة من أن " الحق دوماً على الطليان" . الآن النازحون السوريون واللاجئون الفلسطينيين هم المسؤولون عن انهيار بنائهم كيانهم الاقتصادي ، دون أن يساءلوا أنفسهم: هل كان هؤلاء وأولئك مسؤولين عن استمرار حال الإنقسام والعلاقات والسياسات والمحاصصات التي أدت إلى افلاس الدولة وخراب مؤسساتها، وعجزها عن ضبط الفساد والتهريب والتهرب الضريبي، وصولاً إلى نقل المليارات من الدولارات إلى الخارج . الفلسطيني ما يزال لدى البعض هو المسؤول عن الحرب الأهلية. ألم يسأل هؤلاء أنفسهم لماذا الفلسطيني مازال لاجئا منذ 72 عاماً ؟ ولماذا يتناسون السبب الفعلي لمأساته المستمرة بما هو الاحتلال الصهيوني لفلسطين، الذي يتنمر الآن عليهم وعلى المجتمع الدولي وقرارات الأمم المتحدة، مستنداً للدعم الاميركي الذي يعلنه ترامب كضم القدس والجولان والضفة الغربية لاسرائيل، ورفض عودة اللاجئين وإلغاء وكالة الاونروا وغيرها. ألا يسأل هؤلاء أنفسهم لماذا منذ العام 1990 هذا الفلسطيني يقف موقف الحياد إزاء انقسامات اللبنانيين وصراعاتهم ؟ ويعلن بالفم الملآن أنه مع وحدة لبنان وأمنه واستقراره وسلامة أرضه ومجتمعه؟ ألم يتضرر الفلسطينييون مثل اللبنانيين وأكثر من الوضع الاقتصادي والمعيشي الذي يمر به لبنان ؟ وكيف يواجه الفلسطيني مستوى الخطر مع هذا الافتقار الذي يعيشه، وهو مجرد من حقوقه المدنية والاجتماعية محشوراً في أزقة وبراكيات مخيمات ممنوع عنها الكثير من مقومات العيش وترميم السقف واصلاح الطريق و... .

لقد قدمت مجموعة العمل اللبنانية حول شؤون اللاجئين الفلسطينيين الممثلة لمعظم الأحزاب والتيارات المسيحية والاسلامية الرئيسية، مجموعة من الاقتراحات الثمينة التي تؤسس لعلاقة سوية تقوم على الحوار وتنطلق من خصوصية اللاجئ الفلسطيني الذي ولد وعاش وعمل في لبنان وساهم في إعماره وازدهاره ... وقد رفعت المجموعة هذه التوصيات التي وافقت عليها كل مكوناتها إلى مجلس الوزراء ، لكنها ما تزال حبيسة الأدراج. ثم يأتيك من يقدم صورة الفلسطيني مرادفة لفيروس كورونا في دفع للعنصرية إلى أقصاها...

لا، الفلسطيني ليس وباءً محلياً أو عالمياً. هو مجرد انسان له قضيته ، ومن حقه أن يعيش بكرامة على أرض ربطته بها وربطتها به علاقات جوار وتبادل وتزاوج وقرابة وتعارف قبل أن تنشأ اسرائيل بأجيال وأجيال ... ومن حقه العودة إلى بلاده ، والتي كفلتها القرارات والقوانين والشرعيات الدولية والعربية . ألا يدرك هؤلاء مدى حقد اسرائيل على لبنان كتجربة وميدان تفاعل عقائدي وديني وحضاري، ومقاومة مرَّغت أنف جيشه بالتراب، وأرغمته على الرحيل دون قيد أو شرط . ألا يدرك هؤلاء أن هذا الوطن يقوم على فلسفة الحرية والديموقراطية والمساواة بين أبنائه، وأنه عربي الإنتماء والهوية والمصير، وأن له حقوقاً على أخوته العرب ولهم حقوقاً عليه ... متى نراجع ذواتنا بدل أن نطلق الكلام على عواهنه من أجل الحصول على فئوية شعبوية رخيصة ، لا يمكن سوى القول أنها أقصر الطرق نحو تجديد الانقسام الأهلي على الداخل قبل الخارج المفتوح على ما هو أخطر؟.

مقالات- حسن منيمنة

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o